صفحة تُعنى بالمعرفة الدينية
Информация о канале обновлена 19.11.2025.
صفحة تُعنى بالمعرفة الدينية
الدكتور محمد البشاري
في لحظةٍ فكريةٍ يندر أن تتكرر في فضائنا العربي، تطلّ علينا «موسوعة فلسفةالدين» التي أعدها وحرّرها الدكتور عبد الجبار الرفاعي، بوصفها ثمرةَ ربعقرنٍ من العمل الدؤوب والبحث المعمّق. ليست هذه الموسوعة مجرّد مشروعٍأكاديميٍّ ضخم، بل هي حدثٌ معرفيٌّ يعيد فتح الأسئلة الأولى التي تأسّسحولها العقل الإسلامي، من قبيل: معنى الإيمان، وحدود العقل، ووظيفة الدين، وعلم الكلام القديم، وموقع الإنسان في شبكة الوجود. إنّها إعلانٌ عن عودةالعقل العربي المفكِّر بعد طول غياب، لا في شكل تكرارٍ للماضي، بل في هيئةاستئنافٍ فلسفيٍّ جديدٍ لإمكان التفكير في الدين بوصفه سؤالاً مفتوحًا، لايقينًا مغلقًا.
تأتي «موسوعة فلسفة الدين» للدكتور عبد الجبار الرفاعي كفعل تأسيسيٍّيوقظ في الفكر العربي وعيَه الغائب بذاته، ويعيد للعقل الإسلامي وظيفتَهالأولى: أن يفكّر لا أن يكرّر، وأن يؤمن على بصيرة لا على استسلام. ليستهذه الموسوعة تراكماً معرفياً بقدر ما هي انقلاب في وجهة النظر إلى الدين، منكونه منظومة مغلقة إلى كونه تجربةً وجوديةً مفتوحةً على المعنى.
إنّ «موسوعة فلسفة الدين» ليست مجرد حدث معرفي، بل لحظة كينونة يستعيدفيها العقل العربيُّ قدرتَه على النظر إلى نفسه في المرآة دون خوف. إنها ميلادعقلٍ متكلّمٍ جديد، لا يتكلم بلسان الماضي ولا بلهجة الغرب، بل ببيانٍ إنسانيٍّجديدٍ يزاوج بين نور الوحي وصفاء الفكر. وبهذا المعنى يغدو الرفاعي واحداًمن القلائل الذين لم يضيفوا كتاباً إلى المكتبة العربية، بل أضافوا للعقل العربيقدرةً على أن يكون ذاتَه من جديد.
لقد أراد الرفاعي أن يعيد لعلم الكلام روحَه التي ذوت حين انقلب من علمللتفكير في الإيمان إلى علمٍ للدفاع عن العقائد، فجاء مشروعُه ليكسر هذاالطوقَ ويحرّر المتكلمَ من محكمة الموروث، جاعلاً الفلسفة شريكاً في إنتاجالمعنى لا خصماً في جدله. بهذا المعنى، يواصل مشروعه الكبير الذي بدأه فيكتبه السابقة حول «علم الكلام الجديد»، حيث دعا إلى أن يتحول المتكلم منمحامٍ عن الموروث إلى صانعٍ للأسئلة والأجوبة الجديدة. الموسوعة التي صدرتاليوم ليست استكمالًا تقنيًا لذلك المشروع، بل هي تحوّلٌ نوعيٌّ فيه؛ إذ تجعل منالفلسفة شريكًا أصيلاً في حوارٍ مع الكلام، وتدعو إلى تأسيس أنطولوجياجديدة للإنسان العربيّ داخل أفقٍ كونيٍّ رحب.
في هذا العمل يلتقي العقلُ بالكشف، والبرهانُ بالشهود، إذ يضع الرفاعيالفيلسوفَ والمتكلمَ على مائدة واحدة بعد أن فرّق بينهما تاريخ طويل منالشكوك. فحيث كان المتكلم القديم يبحث عن دليل الوجود، صار الفيلسوفالحديث يسائل معنى الوجود ذاته، وبين السؤالين تمتدّ جسورُ الرفاعي، فتعيدبناءَ العلاقة بين الله والإنسان والكون في أفقٍ من الحوار لا الخصومة. هكذاتصبح «فلسفة الدين» عنده فضاءً ثالثاً يتجاوز الثنائيات: بين النقل والعقل، بينالإيمان والحرية، بين الموروث والكوني، ليصوغ من هذا التداخل «عقلاً تأويلياً»قادراً على إعادة ترتيب العلاقة بين المعرفة والقداسة.
ليس غريبًا أن يختار الرفاعي فلسفة الدين ميدانًا لإعادة بناء العقل، لأنّها تمثّلالمنطقة الحدّية بين ما هو إيمانيٌّ وما هو عقليّ، بين ما هو ذاتيٌّ وما هو كونيّ. في هذا الميدان تتجسّد أزمة الفكر العربي: كيف يمكن للمؤمن أن يظلّ وفيًّالمقدّسه، دون أن يغلق باب التفكير؟ وكيف يمكن للفيلسوف أن يتأمل في الوجوددون أن يستبعد البعد الروحي من معادلة المعنى؟ هذه هي معضلة العقل المسلمالحديث، التي حاولت مدارس الإصلاح والتنوير أن تجيب عنها جزئيًا، فجاءمشروع الرفاعي ليقدّم إجابةً أكثر تركيبًا، تستند إلى التداخل بين العقلالفلسفي والعقل الكلامي والعقل الوجودي، لا إلى فصلها كما فعلت النهضاتالسابقة.
ولعلّ ما يجعل هذه الموسوعة حدثًا تأسيسيًا هو أنها لا تترجم النصوصوحسب، بل تُعيد توطينها داخل أفقٍ عربيٍّ جديد. فترجمةُ الفكر ليست نقلًالغويًا، بل تحويلًا في الوعي. الترجمة هنا فعلُ ولادة جديدة للفكر، تُنقل فيهالمفاهيم من كونها واردات أجنبية إلى أدوات لبناء رؤية عربية للعالم. وبذلكتتحوّل الموسوعة من مرجع أكاديمي إلى «مختبر للعقل» العربي، يعيد تعريفالدين لا بوصفه سلطةً بل بوصفه سؤالاً عن المعنى، ويستعيد الإنسانَ في قلبالتجربة الدينية بعد أن استُبعد دهراً باسم النص.
والرفاعي يدرك أن تأسيس «عقل عربي جديد» لا يمكن أن يتحقق ما لم يتحرّرمن ثنائية النقل والتكرار، فينتقل إلى فضاء التأويل المنتج الذي يعيد صياغةالمفاهيم من داخل حاجاتنا المعاصرة. ولذلك، فإن موسوعته ليست مجرد مرجعٍعلمي، بل هي أداة لإعادة تشكيل رؤية المسلم إلى العالم والإنسان والدين؛رؤيةٍ تستعيد القيم الروحية التي تاهت في خضمّ صراعات الأيديولوجيا،وتستوعب المناهج الفلسفية الغربية دون الارتهان لها.
يصدر قريبًا عن دار الرافدين ببيروت، ومركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، كتاب: الهوية في شِراك الأيديولوجيا، د. عبدالجبار الرفاعي
Владелец канала не предоставил расширенную статистику, но Вы можете сделать ему запрос на ее получение.
Также Вы можете воспользоваться расширенным поиском и отфильтровать результаты по каналам, которые предоставили расширенную статистику.
Также Вы можете воспользоваться расширенным поиском и отфильтровать результаты по каналам, которые предоставили расширенную статистику.
Подтвердите, что вы не робот
Вы выполнили несколько запросов, и прежде чем продолжить, мы ходим убелиться в том, что они не автоматизированные.
Наш сайт использует cookie-файлы, чтобы сделать сервисы быстрее и удобнее.
Продолжая им пользоваться, вы принимаете условия
Пользовательского соглашения
и соглашаетесь со сбором cookie-файлов.
Подробности про обработку данных — в нашей
Политике обработки персональных данных.