أفكر في شيءٍ في نفسي؛ فأرى إعلاناته على مواقع التواصل الاجتماعي!
يا بني: من يُفَكِّر في شيءٍ غالبًا يبحث عنه، أو يهتم بما يدور حوله، فتجده يتوقف عند كل خبرٍ أو منشورٍ متعلقٌ بما يفكر فيه ولو لثوانٍ، وتلك الثواني أو ما يُعْرَف بمدة التوقف (dwell time) من أهم مؤشرات تفضيل المنتجات، بجانب تكبير صورةٍ أو حفظها، وقراءة التعليقات حول منتجٍ ما أو قراءة وصفه، فتسجل خوارزميات برمجة تلك المواقع أنك مهتمٌ بذلك الشيء، فيبادر التطبيق بتغذيتك بالإعلانات والمعلومات عنه وعن ما يشابهه بدون جهدٍ إضافيٍّ منك، كما تقوم تلك الخوارزميات بمحاولة تخمين ما تهتم به من مجموع ما تبحث عنه وتشاهده، ومنا من يفكر في أشياءٍ كثيرةٍ، وأصحاب الإعلانات الممولة كُثُرٌ أيضًا، فلربما كان من باب المصادفة أن تفكر في شيءٍ وترى إعلاناتٍ عنه، فتتوقف حينها أمام ذلك الإعلان مذهولًا، وتظن أنه قرأ أفكارك، فتسجل الخوارزميات أنك مهتم جدًا بذلك المنتج فتتدفق الإعلانات بعد ذلك، وإن لم يكن هذا ولا ذاك فسيتضَّح لنا يومًا طريقتهم في معرفة ما نفكر فيه، فتطبيقات الأجهزة الذكية لا تعلم الغيب يقينًا، بل هو نتاج برمجياتٍ معقدة، وإن كنت لا أستبعد مشاركة القرين في ذلك، فهو يستخدم كل سلاحٍ ليلهينا عن ذِكْر الله، ولو بالانشغال بالمباحات والتوسع في الدنيا، وتضييع أوقاتنا في تفقد المنتجات التي لا نحتاجها.

هل يعلم الجِنُّ ما في صدورنا وأنفسنا؟
يا بني: قال النبي ﷺ: (إن الشَّيْطَانَ يَجْرِي من ابن آدم مَجْرَى الدَّمِ). متفقٌ عليه، ويعلم الشيطان ظاهر العبد ويلتقم قلبه ويَشُمُّ ما فيه ويعلم ما يُحِب وما يكره لطول ملازمته، فيمكنه تخمين ما نفكر فيه، وقد ينجح وقد يفشل، ومما قيل: أن الشيطان يَشُمُّ للطاعة رائحةً طيبةً فيثبط العبد عنها، ويَشُمُّ للمعصية رائحةً خبيثةً فيشجعه عليها.
ومما قيل أيضًا: أن الله جعل القدرة للملائكة على معرفة ما في نفس العبد من الهَمِّ على فعل الطاعة فيكتبون له بنيته تلك حسنةً، ومعرفة الهَمِّ على فعل سيئةٍ فيكتبون له حسنةً إذا لم يفعلها -وكل ذلك من السرِّ بين العبد وربه- ولكنه تبارك وتعالى أقْدَر الملائكة على إحصائه بكيفيةٍ لا نعلمها.
قَالَ ﷺ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً). متفقٌ عليه
قال ابن حجر في فتح الباري (11/325): (وفيه دليلٌ على أن المَلَك يطَّلع على ما في قلب الآدمي؛ إما باطلاع الله إياه، أو بأن يَخْلُق له علمًا يدرك به ذلك).
وكما أن الله جعل للملائكة القدرة على معرفة ما في الصدور فقد جعل الله للشيطان القدرة على سماع ما توسوس به أنفسنا لنا ابتلاًء واختبارًا، كما جَعَل لهم القدرة على معرفة القلب اللاه عن ذِكْرِ الله فيوسوسون له، فمن همَّ بعمل حسنةٍ ثبطه وأقعده عنها، ومن همَّ بعمل سيئةٍ زينها له وحرَّضه وشجَّعه على فِعْلِها، وذلك لكونه يجري من ابن آدم مجرى الدم.
قال ابن تيمية: (وهُمْ وإن شَمُّوا رائحةً طيبةً ورائحةً خبيثةً؛ فعِلْمهم لا يفتقر إلى ذلك، بل ما في قلب ابن آدم يعلمونه، بل ويبصرونه ويسمعون وسوسة نفسه، بل الشيطان يلتقم قلبه؛ فاذا ذَكَر الله خنس، وإذا غفل قلبه عن ذِكْرِه وسوس، ويَعْلم هل ذَكَر الله أم غفل عن ذِكْره، ويعلم ما تهواه نفسه من شهوات الغيِّ فيزينها له! وقُرْب الملائكة والشيطان مِن قلب ابن آدم مما تواترت به الآثار، سواءً كان العبد مؤمنًا أو كافرًا). انتهى من "مجموع الفتاوى" (5/508).
قال الشبلي في آكام المرجان: أَن الْحجَّاج بن يُوسُف أَتَى بِرَجُلٍ رُمِيَ بِالسحرِ، فَقَالَ: أساحرٌ أَنْت؟ قَالَ: لَا. فَأخذ الْحجَّاج كفًا مِن حَصًا فعَدَّه، ثمَّ قَالَ لَهُ: فِي يَدي كم مِن الْحَصَا؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا. فَطرح الْحجَّاج الْحَصَا، ثمَّ أَخذ كفًا آخر وَلم يَعُدَّه، ثمَّ قَالَ: كم فِي يَدي؟ قَالَ: لَا أَدْرِي! قَالَ الْحجَّاج: كَيفَ دَريت الأول وَلم تَدْرِ الثَّانِي؟ قَالَ: إِن ذَلِك عَرفته أَنْت فَعرفهُ وسواسك، فَأخْبر وسواسك وسواسي. وَهَذَا لم تعرفه فَلم يعرفهُ وسواسك، فَلم يخبر وسواسي فَلم أعرفهُ.