Информация о канале обновлена 07.10.2025.
Информация о канале обновлена 07.10.2025.
من قناعاتي القديمة أن الإلحاد واللادينية فرعُ خَورٍ وذلة وهشاشة نفسية... فجمهرة من يلحد أو يدع الدين صنعَ هذا لغير ما ترونه من شبهات وردود ونقاش في البراهين... فكله عرض لا جوهر...
بل لإيجاد قيمةٍ وربما تصدر بمخالفة الجمع... أو نقمةٍ على إذلالٍ مجتمعي لطائفته أو عرقه... أو هوانٍ أمام ثقافة غربية غالبة... وحين أقول ثقافة غربية غالبة فلا أقصد العلموية أو الفلسفية... إذ لم تغلب هذه بعد ولا أظنها تفعل... لكن أريد ما هو أتفه... أريد الاجتماعية... فلا هو تربى على عزة إيمانية ولا وجدها فيمن حوله... ثم بهرته الألوان... أو تجرع تلك الثقافة حتى صار يرى بها... ولا أريد من يعصي ويدرك... بل من تشرَّب قلبه استنكار أن يكون يعصي...
ثم بعد ذلك يحاول فلسفةً وعلمًا ليحجب ما سبق أو يستبدله...
لا ينفي هذا وجود قلةٍ مشكلتها فلسفية أو كانت بذرة انحرفها قراءة ودراسة... لكنه الغالب تبعا لطبائع البشر ونخبوية هذه الأبحاث... وسمعته من متصدرين فيهم...
ولا يُنَزَّه من يُسلِم عن بعض هذا... أعني أثر الأسباب العاطفية أو الاجتماعية أو الرغبة في القيمة والتصدر... لكنه في اعتقادنا يوافق فطرةً هي موقظته الحقيقية أو الثانوية وإن قدح زنادها تلك الأمور... ثم ينتهي إلى خَيرٍ ينجيه وجماعةٍ تحويه... في حين يصير الآخر إلى غيظٍ من المؤمنين وسعارٍ لتأكيد قيمته الموهومة مع شواكله من شراذم المهاجمين الذين يعيشون خوفًا باستتار أو توجس حتى في الغرب... فقط للذة الكلام في هذه المسائل جلبا لقيمة التأثير أو الارتزاق مدة بقائهم قبل أن يصيروا جيفا... لا لمعنى حقيقي خالد...
أمهات المؤمنين وفطرية التحسين العقلي في أفعال الله سبحانه
"أبْشِرْ فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، فَوَاللَّهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ"
.
"وأَنَا حِينَئِذٍ أعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ، وأنَّ اللَّهَ يُبَرِّئُنِي، ولَكِنِّي واللَّهِ ما كُنْتُ أظُنُّ أنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ في شَأْنِي وحْيًا يُتْلَى"
الوجه الخامس- لا خيار إلا اتباع الدليل: وهذا وجه لنفاة التعليل ومثبتيه. فليس للمكلف إلا اتباع ما أقام الحجة ورفع العذر، وهو العلم اليقيني العادي بعدم وقوع هذا الوهم في حواسه وعقله، وأن الأصل صدقهما، إذ اتباع هذا العلم العادي أرجح من تركه لاحتمال الإيهام، وباتباعه يكون المكلف معذورًا، إذ لا يد له في وهمه، في حين يرتفع عذره إن أعرض باختياره لمحض الاحتمال. فلم يكن الله ليحاسب من صدّق حاسته فاعتقد صلب المسيح، ولا من اعتقد قلة عدد المشركين لما قام في عينه، ولا إبراهيم عليه السلام لعمله بما رآه، وإن كان كل هذا إيهامًا على الفرض. لكن يحاسبون جميعًا إن أمرهم باعتقاد ذلك فتركوه لاحتمال أن يكون أوهمهم. أما إن حاسبهم جميعًا فلا يد لأحد ولا مهرب من هذا العبث، إذ لا بد من اختيار، وللفريق الأول عذر وحجة واتباع للأصل الأكثر الأرجح. وهذا الوجه مهم في جواب أكثر تمسكات الملحدين بالاحتمالات، أو بإمكان النقيض في مدلولات كثيرة، وهو أن لو فرضنا إمكان الاحتمال= لم يصحح ذلك اتباعه أو تسويته بالأصل الراجح، ولا يثبت به عذر عند العقلاء.
.
الوجه السادس- اشتراك الإلزام: فالمعترض ملحدٌ أو لا ديني، وكلاهما يسلّم بوقوع الالتباس في الحاسة أو العقل، وجواز ذلك في كل آنة لعارض طبيعي مدرَكٍ أو مجهول، متوقَّعٍ أو مفاجئ. ومع ذلك لا يقبلون إهدار دلالة الحواس والعقل، أو اتباع محض احتمال اختلالهما، وإلا فسدت كل المعارف والعلوم، وبطلت كل الأدلة والفهوم. فكذلك الأمر هنا، لكن استبدل هؤلاء إله الطبيعة بالإله الحق. ثم تجد هؤلاء أنفسهم أشد الناس تقديسًا لما هو دون ذلك في إنكار المعجزات بتحتيم قوانين الطبيعة المستقرأة، أو اعتقاد بعض نظريات العلم المشكلة، مما يجوز فيه كله الخطأ أو يثبت، فلا يلتفتون لهذا الاحتمال، وربما ضربوا بها بعض ما ثبت ضرورةً عقلًا، أو قطع بثبوته نقلًا.
.
[دفع اعتراضات]
الأول: لو فرضنا صواب الوجوه المسلمة بوقوع الخارق، فقصاراها أنه إيهام لنفعنا أو وهمٌ لا يسعنا في الحجة إلا اتباعه، ولكنه يبقى كذبًا، وهذه صفة ذم، ثم أي ثقة تبقى للأخبار بعد تجويز الكذب في إيهام الحس والعقل؟
نقول: لا يسمى هذا لغةً كذبا، لا سيما ونحن ننازع في تسميته إيهامًا. فليس هو الفعل القبيح الموجب للذم، إذ الكذب المذموم خاص بالكلام أو ما قام مقامه في الدلالة على مراد الفاعل، ولذا لا يصح الإخبار بخلاف الواقع، فهذا هو الكذب المذموم، لكن يتعمد المخالف نقل هذا الوصف إلى الإراءة تشنيعًا. وإلا سمي كل ما سببه الله أو أذن به من أوهام كذبًا، إذ لا خصوصية لما كان بخارق، فكله من الله أو بإذنه، وهو ما لا يقوله البشر عامتهم، وعُرفُهُم العام فيما يسمونه كذبًا مذمومًا هو الحجة هنا، ولا عبرة بتوسع المخالف. فتخيل أن يلبسك أحدهم نظارةً تريك العالم أزرقا، فتصرخ فيه: أيها الكاذب مجروح العدالة! أو تخيل تسمية كل من أخفى عيبًا في وجهه أو جسده كاذبًا إذ أرى الناس عدمه، مع أن عرف البشر قاضٍ بكونه كاذبًا إن سُئلَ عن العيب فأنكر وجوده، لا إن أخفاه ابتداءً وأرى الناس خلافه. وقس على هذا العبث. نعم ربما سمي مطلق خلاف الواقع كذبًا، ولكنها استعارة لفظية لا يراد بها عين فعل الكذب المنبي عن الخصلة الذميمة. ثم لو سلمنا جدلًا وقوع هذا في الأخبار، مع استحالته وتسميته حينئذ كذبا باتفاق، فيقال فيها ما قيل في الإراءة، من كونها لحكمة نافعة مع وجوب اتباعها لأصالة الصدق، وهذا تسليم جدليٌ للفظ، لبيان أن لا حجة في ترك الاتباع لمحض احتمال ما تجوزنا جدلًا بتسميته كذبا.
.
الثاني: ألا يلزمكم أن الأنبياء أخطأوا في تأويل رؤياهم؟ إذ لم يحملوها على ما ذكرتموه، فحملوها على قلةِ العدد في نفس الأمر، وعلى ذبح إسماعيل؟
نقول: لا دليل على الأول، فقصارى ما لدينا أن النبي رأى ذلك وأخبرهم بما رأى، ولا نملك تفصيل ما أخبرهم أو تأويله رؤياه. وأما رؤيا إبراهيم عليه السلام، فليس في كلامه لابنه أنه رآه مذبوحا ينضح منه الدم، وإنما رأى أنه يذبحه، وهل أفاد هذا تفاصيل الذبح أم مقدماته، الله أعلم. ولو فرضناهما فهما هذا، ثم أخبرا به، وأنه بخلاف الواقع، فلا ضير، إذ قصاراه أنه اجتهاد في بعض التأويل لم يصب الواقع، واستبان تمامه مباشرة دون ضير، مع إصابتهم في المقصود بالذات من الرؤيتين، وهو هوان المشركين، وامتثال إبراهيم، مع كون قصة إبراهيم عليه السلام خارجة عن الإشكال، إذ هي أمرٌ لا إخبار بواقع.
أما تقليل مشركي بدرٍ في منام النبي، فحكمته بيِّنت في نفس الآيات، لئلا تخور عزائم المسلمين فيفشلوا ويستعر نزاعهم، وكان من ثمار ذلك انتصارهم في بدر، وظهور الدين.
وأما رؤيا إبراهيم، فليست من هذا الباب، إذ هي أمرٌ بما ينبغي أن يقع، ويجوز في الأمر النسخ للحِكَمِ المعروفة، وقيل إنها تذكيرٌ بنذر إبراهيم عليه السلام أن يكون ابنه "ذبيح الله"، فليست الرؤيا تبيانًا لواقع على خلاف ما هو عليه بل أمرًا تم فداؤه ﴿بِذِبۡحٍ عَظِیمࣲ﴾. وهو من جنس أمر النبي عليه الصلاة والسلام بخمسين صلاة ثم تقليلها لخمس.
فبان بهذا الوجه أن هذه الأفعال الإلهية واضحة الحكمة، آيلة إلى ظهور الحق، تقيم مصالح المؤمنين. فهي كغيرها من الخوارق التي يسببها الله لأجلهم لا عليهم، ومن جنس قوله تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَیۡنِ أَیۡدِیهِمۡ سَدࣰّا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدࣰّا فَأَغۡشَیۡنَـٰهُمۡ فَهُمۡ لَا یُبۡصِرُونَ﴾. وإنما يكون الأمر مشكلًا لو كان هذا في نصرة للباطل أو إبطال للحق، فما لم يكن كذلك جاز كل ما هو من جنسه، وزال بما قلنا تجويز غلط الحواس لغير عارض أو حكمة تفيد المؤمنين وتخزي الكافرين، وزال الشك في دلالة أفعال الله، إذ لا تؤول إلا إلى حق. وهذا الوجه لا يصح على مذهب من يجوِّزُ الفعل لا لغاية، فجواب هؤلاء: يفعل أي شيء لا لشيء، ولا حسن ولا قبح.
.
الوجه الثاني- عدم التسليم بحصول خارق: وهذا في الحوادث الثلاث، فتشبيه المسيح لم يرد تفصيله، وقد قيل إنهم لم يعرفوا صورة المسيح، فأخذوا رجلًا ظنوه هو، وقيل: كَذَبَ اليهود أو بعضهم لينفقوا دعوى صلبه على العامة، وقيل غير ذلك مما لا خارق فيه. ومع اشتهار القول بوقوع خارقٍ إلا أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عن التابعين فمن بعدهم، فلا جزم بأنه ليس مما أخذ عن أهل الكتاب.
وكذلك الأمر في تقليل مشركي بدر، إذ القلة والكثرة نسبية، وربما ترى الفئة كثيرة العدد قليلةً من بعيد، أو من منظور معين، أو بما تراه منهم حال الهزيمة، دون تغيير لعدد أو مرئي ليخالف الواقع، كما قد تُرى قليلة نسبةً إلى ما يقابلها، وقد قابل جيش المشركين جيش المؤمنين الذي أمدّه الله وكثّره يالملائكة. فالله يعلم ما أرى نبيه، ولا دليل أن النبي أخبرهم بأن المشركين قليلو العدد في نفس الأمر والواقع، وإنما أخبرهم بأنه رآهم كذلك، وزادهم ما رواه عمر رضي الله عنه: " إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ يُرِينَا مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ بالأمْسِ، يقولُ: هذا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا، إنْ شَاءَ اللَّهُ. قالَ: فَقالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بالحَقِّ، ما أَخْطَؤُوا الحُدُودَ الَّتي حَدَّ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ"- مسلم.
وأما رؤيا إبراهيم عليه السلام، فليست من الباب كما قلنا، وإن كانت فلا علم لنا بماجريات الرؤيا، أرأى شق النحر وسيل الدم؟ أم رأى مقدمات النحر قبل تمام الشق، فوافق الواقع الرؤيا؟ أأُمِرَ فذكر لابنه تأويل الأمر؟ أم رأى الحدث عينه؟ واعلم أني لا أقول بهذا الوجه، لكن لا أجد لمانعه حجةً يقينية، ورؤيا الأنبياء حقٌ وإن لم نقل بهذا الوجه.
.
الوجه الثالث- لا إيهام في رؤى الأنبياء: فالرؤيتان رؤى حق، إذ الرؤيا ليس من شأنها أن تطابق الواقع صورةً وعينا، ولكن يكفي أن تطابقه في التأويل والمناسبة. وأمثلة ذلك كثيرة في رؤى الأنبياء، كرؤيا يوسف عليه السلام إخوته على صورة كواكب، إذ لا يلزم أن يصير إخوته في الواقع كواكب.
وفي رؤيا النبي طابق المرأي الواقع، إذ كانوا قليلا ضعافًا مولي الأدبار، قبال أهل الإيمان الكثيرون بربهم.
وكذلك ما رأى إبراهيم عليه السلام، إذ كان حقًا أمرًا إلهيًا واجب الاتباع، ولم يكن ضغثًا أو تلبيس شيطان.
فلا يسمى ما أراه الله نبينا وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام إيهامًا، إذ حصلت فيهما المطابقة، بما يناسب جنس الرؤى.
.
الوجه الرابع- لا خصوصية لهذه الأحداث: فأهل الإيمان كلهم يجوِّز أن يغيِّر الله علينا الحاسة، وأن ذلك من متعلقات القدرة، دون حاجة لوقوع ذلك كي يثبتوا جوازه، بل يجري هذا في كل أصول المعرفة، إذ يَهِمُ راؤون كل يوم، ويَلتاثُ عقلاءٌ في المصحات وخارجها، وكله جارٍ بخلقِ الله، حتى عند نفاة خلق أفعال العباد، إذ تجري هذه الأمور بسننه في الخلق لا بأفعال الحيوان الحرة عندهم، بل وإن قيل بأنها من أفعال الشيطان في المكلف، فإنها واقعةٌ بإذنه وعلمه سبحانه. فجواز هذا ووقوعه مسلمان ابتداءً. ولكن ما سُلِّمَ هنا ليس محل السؤال، إنما سؤال الشبهة: هل يجوز أن يغيِّر الله علينا الحاسة فيضلنا عن الحق المنجي أو يدلنا على الباطل المهلك؟ والكلام عن وقوع هذا ابتداءً لا عقابا على معصية المكلف. أما جواب مثبتي التعليل والحكمة: فلا، وإلا كان عبثًا أو ظلما، وكلاهما ثبت امتناعه بأدلة مستقلة. وأما عند نفاة التعليل والحكمة: فهذا جائزٌ وقوعه، ولهم الوجه الآتي.
.
[شبهة الإيهام وإبطال دلالتي الحس والعقل]
.
قال تعالى: ﴿وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِیحَ عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ لَفِی شَكࣲّ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ یَقِینَۢا﴾
وقال سبحانه: ﴿إِذۡ یُرِیكَهُمُ ٱللَّهُ فِی مَنَامِكَ قَلِیلࣰاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِیرࣰا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾
وقال عز وجل: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡیَ قَالَ یَـٰبُنَیَّ إِنِّیۤ أَرَىٰ فِی ٱلۡمَنَامِ أَنِّیۤ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ یَـٰۤأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾
.
ووجه الشبهة أن هاهنا فعلٌ من الله، غيَّر فيه على المكلفين حواسهم، فأحسَّوا خلاف الواقع. وحصول هذا يفتح باب تجويز الشك في الحاسة وأصول المعرفة، ثم بطلان اليقين بما يبنى عليها من أحكام، ومنها التواتر، وما يُبنى على التواتر، إذ قد يتواتر محسوس موهوم. فكل شيء منتهاه الحس يجوز أن يقال في أهله: أوهمهم الله خلاف الواقع. وفي آيتي بدرٍ وإبراهيم عليه السلام إشكال زائد، إذ رؤى الأنبياء حق.
.
[ملخصٌ للكسالى]
وحسبك من سقوط هذه الشبهة أنها تفتح باب السفسطة والشك في الحواس والعقول لمحض احتمالٍ قائم بخطئهما لتدخلٍ إلهي، واستشهادًا بأمثلة كلها في نصرة الحق وإزهاق الباطل، ومثل هذا لا يستحق التفصيل في الرد، ومع هذا فصَّلنا لترف الاستيعاب. أما الجواب فمن ستة وجوه: الأول: أن كل هذه الأحداث كانت لحكمة ظاهرة خيّرة تنصر الحق (تنجية المسيح وإحراج مدّعي ألوهيته، ومنع فشل المسلمين في بدر، وامتثال إبراهيم للأمر الإلهي)، والثاني: عدم التسليم بوقوع خارق أصلاً فيمكن تفسيرها طبيعياً، والثالث: أن رؤى الأنبياء تطابق التأويل لا الصورة الحرفية كرؤيا يوسف إخوته كواكب، والرابع: أن السؤال ليس عن جواز تغيير الحواس بل عن جواز الإضلال عن الحق وهو ممتنع للحكمة أو العدل، والخامس: أن المكلف معذور باتباع الأدلة الراجحة وأصالة صدق الحواس وليس بتركها لمحض الاحتمال، والسادس: أن المعترض نفسه يسلّم بجواز التباس الحواس طبيعياً ولا يهدر دلالتها فكذلك هنا، وأما الاعتراض بأن هذا كذب فالكذب المذموم خاص بالكلام لا الإراءة، والاعتراض بخطأ الأنبياء في التأويل مدفوع بأنه لا دليل على وقوعه، أو بكونه اجتهادًا لا يضر مع إصابة المقصود الأساس.
.
[الجواب التفصيلي]
اعلم أن هذا التشكيك، وترك الثقة بالحس والعقل، كالذي في قوله تعالى: ﴿وَلَوۡ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَابࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَظَلُّوا۟ فِیهِ یَعۡرُجُونَ ١٤ لَقَالُوۤا۟ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَـٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمࣱ مَّسۡحُورُونَ ١٥﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِن یَرَوۡا۟ ءَایَةࣰ یُعۡرِضُوا۟ وَیَقُولُوا۟ سِحۡرࣱ مُّسۡتَمِرࣱّ﴾ وذلك في التمسك بالاحتمال والعارض لدفع البرهان الظاهر. بل قولهم أذكى مما نحن بصدده، إذ لم ينيطوا تشكيكهم باحتمال إيهامٍ من الله، بل بالتباسه بفعل غيره، كالسحرة والشياطين، وهذه إشارة لما ذكرته مرارًا من تفوق العقل الجاهلي -حتى في كفره- على العقل المسفسط المعاصر الذي يشقق الكلام ويسبح في فلك التجريدات، ثم مآله إلى حماقة يتنزه عنها أطفال قريش، بل يتنزهون هم عنها خارج سياق أبحاثهم الفلسفية.
.
أما الجواب فمن وجوه:
.
الوجه الأول- الحكمة الخيّرة الظاهرة دائما: فكل الأحداث المروية، كانت الحكمة فيها ظاهرةً خيِّرة، ولم يكن فيها ما يقتضي ضلالًا عن الدين، أو عذرًا في ترك أدلة الحق.
ففي الإيهام بالصلب تنجية المسيح عليه السلام، وإحراج من اعتقدوا صلبه ثم زعموا ألوهيته، إذ بقيت حجةً عليهم، أن كيفَ إلهٌ ويموت؟ كما صارت الحادثة دليل نبوة لمحمد عليه الصلاة والسلام، إذ ما الداعي لأن يخالف النصارى في أصلهم هذا والدواعي قائمة لاستمالتهم، كيف وقد أيقظ خلافًا للنصارى ما كان ليعلمه دون وحي؟ وذلك ما قالت به طوائف متقدمة أنكرت صلب المسيح نفسه لدواعٍ مختلفة، إما للقول بأنه استُبدِلَ بحواريه سمعان، كما عند باسيليدس الغنوصي (120مـ - 140 مـ)، نقلًا عن إيرينيوس (ضد الهرطقات)، وكما في الرسالة الثانية لسيث العظيم (حول 200مـ)، أو للقول بان المصلوب جسدٌ آخر غير المسيح، كالذي في رؤيا بطرس الغنوصية، وفرقة الدوسيتية التي أنكرت أن يكون له جسدٌ يصلب أصلًا (ورد عليهم إغناطيوس الأنطاكي)، وغيرها من تفسيرات مختلفة، تتفق بأن المصلوب ليس هو المسيح، وتكشف عن خلاف قديم في أصل الصلب. فمن أين له علمُ طرفٍ من هذا الخلاف؟ ولم يخالف معهم والدواعي للوفاق أكبر؟
من أعظم أدلة تواتر القرآن= تواتر خلاف بعض الصحابة عند توحيدهم على حرف قريش... مع الخلاف في طبيعة هذا التوحيد مما ليس من شأن المنشور... إذ نملك تفاصيل خلافهم وما تنازعوه من حروف وما جرى بين ابن مسعود وعثمان رضي الله عنهما، حال جهل بعض الصحابة ببعض الحروف أو قراءتهم بغيرها... إلى آخر ما يُعرَفٌ في هذا الباب... مما لم يبلغ1% من آيات القرآن... كاشفًا إجماعهم بدءًا دون خلاف على 99%... والكلام عما صح عن الصحابة من اختلاف في نصوص الآيات وليس عن الاختلاف في الأداء الصوتي والتفاصيل التي لا تضر بأصل النص... اختلافهم فيما ليس من شأنه شقُ فرقة أو نجوم بدعة... فيما لا علقة له بأصل اعتقادٍ أو عمل... مما كان أولى أن ينقل اختلافهم فيه إن تعلقت به الآيات التي اختلفوا في حروفها...
وحسبك بما سبق برهانا على استحالة فرض تواطؤهم...
بل تطرقهم حوادث الافتراق الواحدة تلو الأخرى، بدءًا بالخوارج على عثمان، فحرب علي أصحاب الجمل، فعلي ومعاوية، فعلي والخوارج، فمعاوية والخوارج، وتتواتر إلينا نزاعاتهم في الجملة دع التفاصيل، ولا يؤثر حرف في نزاع لآية قرآنية!
فلا ينقضي عجبي من جعل هذه القضية شبهةً لا دليلا! وأني لأومن مذ وعيت أن أشد حوادث الافتراق والنزاع كانت لحكمة أرادها الله تتعلق بالدين وإن هلك فيها أقوام، ولو لم يكن إلا هذه لكفت!
دع أنك إن أردت جمع القرآن الآن، نعم الآن، بتتبع ما ورد منه في آثار التفسير والمسانيد وكتب اللغة والقراءات، لأمكنك ذلك! ولكان متواترًا بها!
وها هنا ملحظ لغوي يتعلق بصدق الوعد الإلهي، فالعرب إلى يومنا يصفون كتبًا بأنها محفوظة، وليس لها عشر معشار ما للقرآن، بل تتصفحها وتجد اختلاف النسخ، والنزاع في إثبات شيء أو تركه... ومع هذا كله لا يصح لغةً أن يقال إنها "غير محفوظة"... لا ريب إذن في قيام الحجة بما تواتر إلينا، وبأن الوعد بحفظه صادق إن كان بمثابة ما هو محفوظ بيننا من كتب، فكيف وهو فوقها....
وأذكر أني تفكهت يوما بملحدٍ متصدرٍ للمسألة... فبادرته بأنني لن أبلغ سؤالي الثالث إلا وقد أثبتَ هو حجية القرآن... فسألته عن مصدر الروايات التي يوظفها للتشكيك... فذكر أنها من الكتب المعروفة... فسألته: أهي محفوظة؟... فعرف أين المصير ولم أحتج سؤالي الثالث...
[دلالة المعجزة]
لكثرة ما يقع من التباس اصطلاحي بين الشراح والمحشين في بحث دلالة المعجزة عند المتكلمين، حتى إن بعضهم ربما تفرد باصطلاح أو تعبير لا تجده عند غيره، لخصتُ بابَ بحثٍ مسوَّد فيها لم أراجعه بعد، وأرى أخطاءه بعيني فأكسل عن الضبط، ولكن هاهو لكسر نزعة الكمال، وفي الختام إشارة لابن تيمية:
هاهنا فروق مهمة لإدراك موارد النزاع، إذ تعتور بحث الاستدلال مراتب أربع:
أولها: المدلول وطريقة تحصيله، إذ القضية إما أن تكون ضروريةً مدركةً دون نظر وترتيب مقدمات، أو نظرية حاصلة بترتيب القضايا.
ثم نرتقي إلى المرتبة الثانية، المتعلقة بوجه دلالة الدليل وكيفية ارتباطه بالمدلول، فتنقسم الكيفية إلى عقلية وعادية ووضعية، على اختلاف بينهم في التقسيم، والربط العقلي هنا ما لا ينفك فيه الدليل عن المدلول، وربما عبروا عن الارتباط هنا بالضرورة، لكونه ذاتيًا دائميًا بلا توسط عادة أو وضع، وربما عبروا عن العادة هنا بالطبيعة، وهذه أيضًا قد يريدون بها طبيعة العالَم الذي تتكرر فيه المشاهدات فتنتزع منها القواعد، وقد يريدون بها طبيعة الإنسان المـُشاهِد لهذه التكرارات، والتي تحمله على انتزاع القواعد. وربما عبروا عن الوضعي بالعرفي، لكون العلم بالوضع حاصلًا بعرفٍ سمعيٍ أو مشاهد. وفي هذه المرتبة بحث آخر، وهو: هل وجه دلالة الدليل على المدلول يعرف ضرورة؟ وهذا يختلف عن المرتبة السابقة في أنه بعد حصول الدليل، هل يُنتَقَل منه إلى المدلول مباشرةً؟ أهو من جنس إدراك أن الأثر يدل على المسير مباشرةً دون توسط ما يربط بين الدال والمدلول، أم من جنس دلالة الأثر على كون المكان سبيلا مطروقا للسائرين بتوسط دلالته على المسير وعلى قياس قضية مفادها أن كل مكان مسير فهو سبيل مطروق؟ ولعل القول بضرورية الربط وصفٌ للدلالة العقلية، في حين عدمها وصفٌ للوضعية والعادية.
أما ثالث المراتب: فما يقع بعد الاستدلال أو العلم بالدليل، أي ما يولده في النفس، وهذا يكون يقينيًا أو ظنيا إن كان الدليل صحيحًا، وربما عبروا عن اليقين بالقطع والجزم، كما اشتهر وصفهم اليقيني بالضروري هنا، لاضطرار النفس إلى التصديق به سواءٌ احتُمِلَ النقيض أم لم يُحتَمَل، مما ولد خلطا بينه وبين الضروري في المرتبة الأولى -المقابل للنظري- والثانية -المقابل للعادي والوضعي-.
ثم هاهنا مرتبة رابعة: تتعلق بحصول النتيجة بعد كل ما سبق، أيكون عقلًا أم عادةً أم تولدا، وهذا تختلف فيه المذاهب العقدية، تبعًا لقولهم في الأسباب الثانوية، وربما اختلفوا لغير هذا.
وبإدراك هذه المراتب يضح خلافهم في دلالة المعجزة، وأنه حاصلٌ في المرتبتين الأولى والثانية، مع عدم أهمية الرابعة، واتفاقهم في الثالثة، وهي أن المتولد في نفس المستدل يقينٌ ضروريٌ بالمدلول -صدق النبي-، واتفاقهم على أن هذا المدلول ناشئ بدليل المعجزة، لكن يختلفون فيما سبق هذه النتيجة، وهي: هل يسمى المدلول نظريًا لكونه مستندًا إلى دليل المعجزة، أو لاستنداه إلى ترتيب مقدمات -إحداها إدراك المعجزة- للوصول إلى المدلول، أم ضروريًا لكونه حاصلًا مباشرةً بإدراك المعجزة دون توسط ترتيب؟ وما وجه دلالة المعجزة على صدق النبي، أرّبط فيها بين الدال والمدلول عقليٌ أم عاديٌ أم وضعي؟
فربما عبر أحدهم بالعقلي مريدًا أنه ضروري، ثم مثَّل بأمثلة العادة أو الوضع. وربما عبر بالعادي مريدًا قولهم في المرتبة الرابعة، ثم مثل بأمثلة الوضع. وربما لم يثبت القسمة الثلاثية رأسًا وجعل الأمر مترددا بين العقلي والعادي فقط، أو العقلي والوضعي فقط. وكل هذا راجع لتداخل هذه المباحث واختلاف الاصطلاح.
وإن من عبقريات الباب عند ابن تيمية أنه لم ينصع لثنائيات هذا البحث، كعادته في بيان التداخل والاحتمال، فجعل في المعجزة الدلالات الثلاث، العقلية والعادية والوضعية، وله ورقات قليلة في هذا لا أعلم مثلها في أيٍ من كتبه.
بودكاست من صناعة NotebookLM
حول موضوع التواتر... بناه على بحث مسوّد لي في نقاش الرازي وشراحه...
لم يستوعب ما في البحث لكنه مذهل في التقريب والعرض
https://drive.google.com/file/d/1rcpJHNlj0seqjTY3wA4mraOzTzODxXhR/view?usp=drivesdk
أذكِّر المهتم -ولا أدري لِمَ يهتَم- بأنني لم أنتسب ولن أنتسب لاسم من أسماء الطوائف والفرق المنتشرة على الساحة...
وهذا موقفي منذ سنوات، رغم ابتذال هذا الادعاء إلا أن لي منشورات فيه قديمة لله الحمد، قبل كتابي وبعده، بل إني (تعمدت) في مؤلَّفي عدم النقل عمن انتسبوا لابن تيمية وأتوا بعده بقرون، أو اعتماد شيء من كلامهم، إلا مواضع تعد على أصابع اليد الواحدة في أكثر من ألف صفحة في شرح الرسالة، ولأسباب تتضح للقارئ، مع اعترافي بأنهم (أقرب) للحق والوحي (فيما سلكوه عقائديا على طريقة ابن تيمية والطبري والمتقدمين)، وأنصح بشروحهم العقدية (ما جرت على هذا الشرط).
هذا موقفي، لا تواضعًا، ولا استعلاءً، بل واقعًا، إذ لا أجدني متوائما مع هذا الوضع البائس الذي يتنازع بؤسه (الجميع بلا استثناء)، فضع اسم أي طائفة وستجد فيها عين ما في غيرها، والكلام عن الساحة والمصاديق لا عن المفهوم الشريف وشعارات الترويج المذهبية.
نعم أعتقد أمورًا يعرفها الجميع، وأدافع عن رموز يعرفهم الجميع، وأغلب هذا يقع في حيز العقائد والقواعد العامة، أما الذي وراء ذلك، فلست أرتضي نسبتي لشيء منه أو نسبة شيء منه إلي.
من رأى هذا المنشور فليتصالح مع فكرة أن ماهر لا ينتسب لاسم سوى الإسلام، وإنه إن كان يسكت ويتساهل فيما تنسبونه إليه، فهو الآن يمنع ذلك ويرفضه.
وقبل أن أنسى... لستُ شيخًا، ولا أقولها تواضعًا ولا ترفعا، كالذي سبق، بل بين بين، لأمور تخصصية عالية أرى من النزول ارتضاء وصف المشيخة النمطي معها، ولأمور شريفة أراني دون شرف هذا الوصف لأجلها...
أخيرًا: ما سبب هذا المنشور؟ أنني أرى طائفةً فرحةً بي وتظنني أمثلها أو تذكرني في رجالاتها، فأقول: لا تفرحوا فلست منكم، وأخرى تتنزه عني ولا تريدني ممثلا لها فأقول: هذا المنشور لكم لتبرزوه كلما نسبني إليكم أحد، فإني أتنزه عنكم كما تفعلون.
وأرى حول هؤلاء جميعا سذجا يحمِّلون مخالفهم أوزار طائفة يظنونه منها، أو يحملون طائفة أوزار من ينسبونه إليها، فأقول لهؤلاء تحديدا: لا شأن لي بأحد ولا ينالني منهم غبار، إذ أحمل أصلا ما يثلبني فلست مستعدا لمشاركة طائفة أحمال منتسبيها، كما لا يحمل غيري وزري الذي أحمله على ظهري وحيدا كما سأقف به يوم الحساب وحدي.
ولا يفرحن منتسبون لإحدى المذاهب المشهورة بهذا الكلام، فعين هذه الأوزار تحملونها ولا تختلفون عن أي طائفة أخرى تخاصمونها، فانتساباتكم تعجبني وتسهل أمركم عندي، فكلكم بانتساباتكم الواهية حملتم نفس المثالب، وكل ما تفتحون به أفواهكم لنقد خصومكم فهو فيكم، وأنا بفضحكم زعيم إن ادعى أحدٌ طهرانية مذهبه، والتاريخ بيننا... يزخر بالتعصب والبذاءة والجهل والتقليد الأعمى والبغي والابتداع والتناقض والاستقواء بالسلطة وزيادة ما لم يقله الوحي، الكل يقترب من ذلك ويبتعد، وبعضكم أقرب للحق من بعض، بل الرجل الواحد يقترب من الحق حينا ويبتعد أخرى...
وأنا معكم في هذه لا أبرئ نفسي... وعلى الله قصد السبيل...
#إعادة_نشر_2022
تذكير
[كيفية إتمام الشبهة]
وهذا تبرعٌ يرمم الشبهة حتى تقع على مراد الملحد، ولتُعلَمَ وظيفة المخالف، فلا يضيع المجادلون أوقاتهم، وذلك بأن يفلح في شيءٍ من الآتي:
أولًا: إثبات أن الحديث لم يرد إلا على لفظ وسياق يحتِّمُ إرادة الساعة الكبرى بما يجعل خلاف ذلك تحريفًا لغويًا وتأويلًا مجازفا.
ثانيًا: إثبات أن القوم فهموا منه ذلك، وحملوه على هذا المعنى، فكان الصحابة يعتقدون أن النبي أخبر بقيام الساعة الكبرى في قرنه، ولا يكفي نصبُ رجلٍ واحدٍ أساء الفهم، كيف والجزم بهذا أيضًا مفقود؟
ثالثًا: دفع الوجوه التي سبق ذكرها لئلا تكون في أدنى أحوالها قرائن صارفة معلومة للمخاطبين.
فإن عجز عن شيء من هذا بقي حقُ كلامنا دامغا بلا مزيد.
الثالث: ألم يتوهم ذلك الأعراب الذين خوطبوا بهذا؟ وإن لم يفهمه كبار الصحابة والتابعين؟ وهذا كافٍ في المطلوب.
نقول: قد لا نسلم هذا، ولا دليل عليه من النصوص، فينتفي الاعتراض رأسًا ولا حاجة لما يلي. ثم قد نسلمه، وهو الأقرب، ولكن أين في العقل والنقل أن على النبي إفهام كل مخاطَبٍ ما يطابق المراد في كل شأن؟ نعم في شأن الأحكام العملية لتوقف التطبيق، وحتى هذا يكفي فيه البيان الذي يوجب العمل، ويكون بعض تفصيله اجتهاديا من الحكمة أن يختلف فيه الفقهاء. أما ما لا عمل يبنى عليه، فتبيان الأنفع للمخاطبين هو الأسلوب الحكيم، لا إشباع فضولهم كلما عنَّ لهم سؤال، وربما أُجمِلَ الكلام لحكمة الإخفاء، مع عدم ترتب عمل، كالذي روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: "أسرعكن لحاقا بي، أطولكن يدا". قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا. قالت: فكانت أطولنا يدا زينب. لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق."-مسلم.
الرابع: وأي ضامن لنا ألا يقال هذا التأويل في كل نبوءة تكذب؟ أنها فُهِمَت خطئًا والمراد بها خلاف ظاهرها؟
نقول: قد بينا أن ظاهرها ليس ما فهمه المشكل، بدلالة ألفاظها فقط، كيف وقد أيد ما قلناه السياق وفهم الأوائل وأحاديثُ أُخَر؟ وهذا مسلك عقليٌ صحيح في ترجيح فهم أو تخطئته، في شأن النبوءات وغيرها. فإن أمكن مثله في نصوص أخرى= فهو الحق، وإن لم يمكن= لم يُقبَل التأويل، إن سمينا المقبول تأويلًا، وهو محل نزاع. فليس الأمر عبثًا أو مسلكًا بالهوى. بل قد تُخَطَّأ به بعض التأويلات التي غرضها إثبات النبوة بتمحل الإعجاز العلمي وما شابهه.
الخامس: ذكرتم احتمال خطأ راوٍ في حديث أنس، فأي شيء يمنع أن تقولوا هذا كلما أعياكم حديث؟
نقول: احتمال الخطأ قائم عقلًا في غير المتواتر أو المحتف بالقرائن دائمًا، وإنما العيب في ترجيح الخطأ وهو مرجوح دون ما يقويه علميًا. ولم نذكر الاحتمال أصلًا بل فرعًا أخيرا. ولم نقله عبثًا بل بقرنه مع غيره من الروايات الصحيحة، مع بقية القرائن والوجوه المذكورة. ومن صنع مثل هذا مع أي حديثٍ قُبِل منه نصبُ هذا الاحتمال، إذ ليس عبثًا أو لمحض حرجٍ مزعوم. فلا، لن يقال هذا كلما أقلقنا حديث لمحضِ الهوى، بل لما ذكر من مرجحات.
السادس: قلتم إن من حق الحديث أن يضعف لو كان كذبًا منافيًا للنبوة لمعارضته البراهين القاطعة بصدق النبي، فأي شيء يمنعكم من صنع هذا كلما أتيناكم بكذبة، فتردوها باعتقادكم المسبق؟
نقول: لا شيء يمنعنا ما تحقق الشرطان، أن تقوم البراهين القاطعة على صدق النبي، وأن يكون المنافي لها ظنيًا لا يمكن جمعه إليها، لاستحالة تناقض القطعيات واجتماع النقائض. ثم إن الاعتراض يوهم أن هذا كثير متكرر، في حين نملك من الأخبار الصادقة ما لا يحصى، ولا يملك المعترض إلا هذه الشبهة المدفوعة بمجرد ألفاظ رواياتها، وما شابه ذلك مما لا يعدو أن يكون استدلالًا بضعيف أو وهمًا في صحيح، مما يغني بيان ضعفه أو وهمه عن دفعه بهذا المنهج. ومع كونه منهجًا علميًا في رد الظني المناقض للقطعي، إلا أننا ننصبه فرعًا لا أصلا، ولم نضطر إليه في شيء مما يوردونه. ولا رد لهذا المنهج إلا بأن يجوز المعترض اجتماع النقيضين، أو كذب النبي الصادق، وهذه مباحث أخرى مع ما فيها من جهالة ومكابرة ظاهرة.
السابع: قلتم إن التزام صحة هذه الرواية للطعن يقتضي أن نلتزم منهجية المحدثين، وتصحيح روايات الصدق وآيات النبوة، وليس كذلك، وإنما نلزمكم بما التزمتم به وأن على منهجكم يلزمكم التناقض، بثبوت ما يدل على الكذب.
نقول: هذا من أغبى الاعتراضات وأكثرها رواجا، وحسبك مثالًا قبل التفصيل، وهو أن يستدل كافرٌ بقوله تعالى {ويلٌ للمصلين}، فإن قيل له: أتمَّ سياق، وأورد الأمر كما نزل. قال: لا تلزمني بقية الآيات، إنما ألزمكم بما تلتزمون. فكذلك هنا. وهذا يقع أيضًا في بعض إلزامات المسلمين لغيرهم. فهنا إما أن يعتقد الخصم صدق الرواية ثم يبني عليها الطعن، وهنا يلزمه اعتقاد صدق كل ما كان بمثابة هذه الرواية في الثبوت والدلالة. وهذا الذي فوّقنا إليه سهم الوجه السابق. وإما أن يريد ضرب روايات الصدق بها، فهو لا يعتقد صدق أيٍ منها، ولكن يقول: ما تستدلون به يثبت الكذب أيضًا لا الصدق فقط. فهو يحاكمنا لمنهجنا. وهذا عليه أن يلزمنا بمنهجنا كله كما هو، لا ببتر ما يعجبه مما لا يلزمنا وليس هو منهجا مقبولا حال استقلاله. ومثال هذا من يقول: في منهجكم أن لام التعريف تعم الجنس، فالويل لكل المصلين، ودينكم يذم أهل الصلاة. فنقول: ليس في منهجنا استقلال هذا، بل معه: أن الصفة تقيد حكم الموصوف، وأن تتمة الكلام تبينه، فيقيد المصلون بـ {الذين هم عن صلاتهم ساهون}. فهنا ليلزمنا عليه أن يورد كل الروايات بما صح من ألفاظها، ويعود لفهم الأوائل والسياق، ويُعمل ميزان الترجيح ولوازم الظن، قبل أن يخلص لمدلول يلزمنا به ويصح أن يكون مشكلًا، وهو ما لم يقع. وهذا الجواب مهم في تجلية بعض التطبيقات الهوجاء لقاعدة إلزام الخصم بما يلتزمه.
Рост подписчиков
Публикации
Просмотры
Средний охват + ERR%
Владелец канала не предоставил расширенную статистику, но Вы можете сделать ему запрос на ее получение.
Также Вы можете воспользоваться расширенным поиском и отфильтровать результаты по каналам, которые предоставили расширенную статистику.
Также Вы можете воспользоваться расширенным поиском и отфильтровать результаты по каналам, которые предоставили расширенную статистику.