الله أكبر ولله الحمد

قبل أيام صعدتُ الباص متجهاً إلى دمشق، وكان السائق ينتظر أن يمتلئ قبل أن ينطلق. وفي تلك اللحظات، خرج طفل صغير يحمل كيسَاً فيه بضع قطع من البسكويت، يبيعها متعففًا، وكأن على كتفيه أثقال الدنيا. اقترب مني وقال بصوت خافت وحياء ظاهر:
"أمانة يا عمو، اشتري مني... لازم خلّص الكيس حتى أرجع عالبيت."
فاشتريت منه، وهمّ بالنزول من الباص. ناديتُه وسألته بلطف:
"بتصلي يا بطل؟"
هزّ رأسه نافياً. فبدأت أنصحه وأحدثه عن فضل الصلاة، فإذا به يقول:
"بوعدك من بكرا الجمعة ببدأ صلي، كل يوم."
رأيت في عينيه صدقاً أثّر في قلبي، فحاولت أن أُرغّبه أكثر، فقلت:
"الصلاة بتفتح لك أبواب الرزق، والله بيباركلك فيها وبيجمعك بأهلك بالجنة."
ثم سألته:
"ما أكتر أمنية بتتمنى تتحقق بحياتك؟"
كنت أظن أن فقره سيجعله يطلب مالاً أو بيتاً أو سيارة...
لكن الطفل صمت لحظة، ثم قال بصوت خافت وعيون دامعة:
"بتمنى يرجع بابا عالبيت، بس حتى شوفه وأقعد معه شوي..."
كأنما نزلت هذه الكلمات على صدري صواعق. شعرت وكأن هذا الطفل الصغير يحمل همّ أسرة ومسؤولية تفوق سنّه، ويحيا بشوقٍ موجع لرؤية والده الميت.
لم أشأ أن أسأله كيف تُوفي والده، هل في قصف أم استُشهد في معركة؟ بل دعوت له بالرحمة، وقلت للطفل:
"اللقاء الحقيقي بيكون بالجنة، وإذا بدك تفرّح أبوك، حافظ على صلاتك وادعِ له."
قال لي:
"بوعدك، من بكرا رح صلي كل يوم، ولو رجعت بعد فترة بتلاقيني عم صلي."
غادرني وأنا أحمل همَّاً جديداً في قلبي. تأملت هذا المشهد المؤلم – كم من أطفال الشهداء والأيتام من يحملون في قلوبهم نوراً كبيراً وخيراً كثيراً، لكنهم لم يجدوا من يأخذ بأيديهم، من ينصحهم ويوجههم نحو الطريق الصحيح؟
إنها مسؤولية عظيمة في أعناقنا جميعا: الدعاة، والمربون، والعاملون في الجمعيات، والمنظمات، بل كل من آتاه الله علماً أو رحمة. النزول إلى الميدان، الاحتكاك بالناس، الإصغاء إلى حاجاتهم، وتربيتهم باللين والحكمة... إنها أمانة لا يجوز التهاون فيها.
اللهم اغفر لي تقصيري، واستر عيوبي، واحفظ الأيتام في كنفك، واكلأهم برعايتك، واجعل لنا نصيباً في خدمتهم ودعمهم، يا أرحم الراحمين.